الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ولما دخل السلطان إلى دمشق أصبح نادى بدمشق بالأمان والاطمئنان لأهل الشام وألا ينزل أحد من العسكر في بيت أحد من الشاميين ولا يشوش أحد منهم على أحد في بيع ولا شراء ونودي أن الأمير نوزوزًا الحافظي هو نائب الشام ثم في ثاني ربيع الآخرة قدم الأمير شاهين الزردكاش نائب صفد على السلطان بدمشق ثم في ثالثه خلع السلطان على الأمير يشبك الموساوي الأفقم باستقراره في نيابة طرابلس واستقر أبو بكر بن اليغموري في نيابة بعلبك وأخوه شعبان في نيابة القدس. ثم في سادس شهر ربيع الآخر المذكور خرج أطلاب السلطان والأمراء من دمشق إلى برزة وصلى السلطان الجمعة بجامع بني أمية ثم ركب وتوجه بأمرائه وعساكره جميعًا إلى أن نزل بمخيمه ببرزة وخلع السلطان على شاهين الزردكاش نائب صفد باستقراره نائب الغيبة بدمشق وسكن شاهين بدار السعادة. وتأخر بدمشق من أمراء السلطان الأمير قاني باي المحمدي لضعف كان اعتراه وتخلف بدمشق أيضًا القضاة الأربعة والوزير سعد الدين بن البشيري وناظر الخاص مجد الدين بن الهيصم. وسار السلطان بعساكره إلى جهة حلب حتى وصلها في قصد شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء ثم كتب السلطان لنوروز وشيخ يخيرهما إما الخروج من مملكته أو الوقوف لمحاربته أو الرجوع إلى طاعته: يريد - بذلك - الملك الناصر الشفقة على الرعية من أهل البلاد الشامية لكثرة ما صار يحصل لهم من الغرامة والمصادرة وخراب بلادهم من كثرة النهابة من جهة العصاة. ثم أخبرهما الملك الناصر أنه عزم على الإقامة بالبلاد الشامية السنتين والثلاثة حتى ينال غرضه فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته ويعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة الخوف والهيبة عندما قبض عليه السلطان مع الأتابك يشبك الشعباني في سنة عشر وثمانمائة وأنه قد حلف لا يحارب السلطان ما عاش من. يوم حلفه الأمير الكبير تغري بردي - أعني الوالد - في نوبة صرخد وكرر الإعتذار عن محاربته لبكتمر جلق حتى قال: وإن كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشام على عادته فينعم عليه بنيابة أبلستين وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية وعلى يشبك بن أزدمر بنيابة عين تاب وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع فإنهم أحق من التركمان المفسدين في الأرض - وكان ما ذكروه على حقيقته - فلم يرض السلطان بذلك وصمم على الإقامة ببلاد الشام وكتب يستدعي التركمان وغيرهم كل ذلك والسلطان بأبلستين. وبيناهم في ذلك فارق الأمير سودون الجلب شيخًا ونوروزًا وتوجه إلى الكرك واستولى عليها بحيلة تحيلها. ثم عاد السلطان إلى حلب في أول جمادى الآخرة ولم يلق حربًا فقدم عليه بها قرقماس ابن أخي دمرداش - المدعو سيدي الكبير - والأمير جانم من حسن شاه نائب حماة - كان - فأكرمهما السلطان وأنعم على قرقماس بنيابة صفد وعلى جانم بنيابة طرابلس واستقر الأمير جركس والد تنم حاجب حجاب دمشق ثم خلع على الأمير بكتمر جلق باستقراره في نيابة الشام ثانيًا وأنعم بإقطاعه على الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب ثم بعد مدة غير السلطان قرقماس - سيدي الكبير - من نيابة صفد إلى نيابة حلب عوضًا عن عمه أمير دمرداش المحمدي وأخلع على أخيه تغري بردي - المدعو سيدي الصغير - باستقراره في نيابة صفد. وبينما السلطان في ذلك بحلب ورد عليه الخبر بأن شيخًا ونوروزًا وصلا عين تاب وسارا على البرية إلى جهة الشام فركب السلطان مسرعًا من حلب على حين غفلة في ثالث عشرين شهر رجب ببعض عساكره وسار حتى دخل دمشق في أربعة أيام ثم قدم في أثره الوالد بغالب العساكر ثم الأمير بكتمر جلق نائب الشام ثم بقية الأمراء والعساكر. ثم في ثالث شعبان قدم الأمير تمراز الناصري نائب السلطنة - كان - إلى دمشق في خمسين فارسًا داخلًا في طاعة السلطان بعدما فارق شيخًا ونوروزًا فركب السلطان وتلقاه وبالغ في إكرامه. قلت: وتمراز هذا هو الذي كان فر من السلطان في ليلة بيسان ومعه عدة أمراء - وقد تقدم ذكر ذلك في وقته. ثم في الغد سمر السلطان ستة نفر من أصحاب شيخ ووسطهم. وأما شيخ ونوزوز فإنهما لما سار السلطان عن أبلستين خرجا من قيسارية بمن معهم وجاؤوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر وقاتلوهم فانكسروا منهم وفروا إلى عين تاب فلما قربوا من تل باشر تمزقوا وأخذت كل طائفة جهة من الجهات فلحق بحلب ودمشق منهم عدة وافرة واختفى منهم جماعة. ومر شيخ ونوروز بحواشيهما على البرية إلى تدمر فامتاروا منها ومضوا مسرعين إلى صرخد وتوجهوا إلى البلقاء ودخلوا بيت المقدس ثم توجهوا إلى غزة بعد أن مات من أصحابهم الأمير تمربغا المشطوب نائب حلب - كان - والأمير إينال المنقار كلاهما بالطاعون بمدينة حسبان ثم قدم عليهم سودون الجلب من الكرك فتتبعوا ما بغزة من الخيول فأخذوها وأقاموا بها حتى أخرج السلطان إليهم بكتمر جلق على عسكر كبير فسار إلى زرع ثم كتب للسلطان يطلب نجدة فأخرج إليه السلطان من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانية ورأس الأمراء الأمير تمراز الناصري خر - الذي قدم على السلطان طائعًا بدمشق - ويشبك الموساوي الأفقم وألطنبغا العثماني وأسنبغا الزردكاش وسودون الظريف نائب الكرك - كان - والأمير طوغان الحسني رأس نوبة النوب فخرجوا من دمشق مجدين في السير إلى قاقون - وبها الأمير بكتمر جلق - فساروا جميعًا إلى غزة فقدموها في عصر يوم الثلاثاء من ثالث شهر رمضان وقد رحل شيخ ونوروز بمن معهما بكرة النهار عندما قدم عليهم سودون بقجة وشاهين الدوادار من الرملة وأخبراهم بقدوم عسكر السلطان إليهم فنهبوا غزة وأخذوا منها خيولًا كثيرةً وغلالًا فتبعهم الأمير خير بك نائب غزة إلى الزعقة وسارت كشافته في أثرهم إلى العريش ثم عادوا إلى غزة. فلما وصل بكتمر جلق بمن معه من الأمراء إلى غزة وبلغه توجه شيخ ونوروز إلى جهة مصر أرسل بكتمر الأمير شاهين الزردكاش والأمير أسنبغا الزردكاش على البرية إلى مصر ليخبرا من بقلعة الجبل بقدوم شيخ ونوروز إلى مصر فسارا وسبقا شيخًا ونوروزًا وعرفا الأمير أرغون الأمير آخور وغيره ممن هو من الأمراء بمصر ورد جواب أرغون على بكتمر بأنه حضن قلعة الجبل والأسطبل السلطاني ومدرسة السلطان حسن ومدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين - التي كانت تجاه الطبلخاناه عند الصوة - وأنه هو ومن معه قد استعدوا للقاء شيخ وأما شيخ ونوروز ومن معهم فإنهم ساروا من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية فمات بالعريش شاهين دوادار الأمير شيخ - وكان عضد الأمير شيخ وأعظم مماليكه. ثم ساروا إلى قطيا ونهبوها. ثم ساروا من قطيا إلى أن وصلوا إلى مصر في يوم الأحد ثامن شهر رمضان من سنه ثلاث عشرة وثمانمائة المذكورة. ودخل شيخ ونوروز بمن معهما من أمراء الألوف وهم: الأمير يشبك بن أزدمر والأمير سودون بقجة والأمير سودون المحمدي تلي والأمير يشبك العثماني وغيرهم من أمراء الطبلخانات مثل قمش وقوزي وغيرهما ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزعر وبني وائل - من عرب الشرقية - والأمير سعيد الكاشف - هو معزول - فبلغهم تحصين القلعة والمدرستين وأن الأمير أرغون ومن معه من الأمراء قبضوا على أربعين مملوكًا من النوروزية - أعني ممن كان له ميل إلى نوروز من المماليك السلطانية - وسجنوهم بالبرج من قلعة الجبل خوفًا من غدرهم فسارا من جهة المطرية خارج القاهرة إلى بولاق ومضوا إلى الميدان الكبير إلى الصليبة وخرجوا إلى الرميلة تحت قلعة الجبل فرماهم المماليك السلطانية بالمدافع والنشاب وبرز لهم الأمير إينال الصصلاني الحاجب الثاني بمن معه ووقف تجاه باب السلسلة وقاتل الشيخية والنوروزية ساعةً فتقنطر من القوم فارسان ثم انهزم إينال الصصلاني وعاد إلى بيته تجاه سبيل المؤمني - المعروف ببيت نوروز - وبات الأمراء تلك الليلة بالقاهرة. وأصبح الأمير شيخ أقام رجلًا في ولاية القاهرة فنادى بالأمان ووعد الناس بترخيص الأسعار وبإزالة المظالم فمال إليه جمع من العامة. وأقاموا ذلك اليوم وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناة السلطانية هذا والقتال مستمر بينهم وبين أهل القلعة. ثم ملك الأمراء مدرسة السلطان حسن وهزموا من كان فيها من المقاتلة بعد قتال شديد وأقاموا بها جماعة رماة من أصحابهم ورموا على قلعة الجبل يومهم وليلتهم وطلع الأمير أرغون من بشبغا - الأمير آخور - من الإسطبل السلطاني إلى أعلى القلعة عند الأمير جرباش وكمشبغا الجمالي فأدخلاه القلعة بمفرده من غير أصحابه. فلما كانت ليلة الاثنين كسرت خوخة أيدغمش ودخلت طائفة من الشاميين إلى القاهرة ومعهم طوائف من العامة ففتحوا باب زويلة - وكان والي القاهرة حسام الدين الأحول وقد اجتهد في تحصين المدينة - ثم كسروا باب خزانة شمائل وأخرجوا من كان بها وكسروا سجن الديلم أيضًا وسجن رحبة باب العيد وانتشروا في حارات القاهرة ونهبوا بيت كمشبغا الجمالي وتتبعوا الخيول والبغال من الإسطبلات التي للناس وغيرها وأخذوا منها شيئًا كثيرًا. ثم فتحوا حاصل الديوان المفرد ببين القصرين وأخذوا منه مالًا كثيرًا. ثم ملك شيخ باب السلسلة وجلس بالحراقة هو ورفقته. ثم طلبوا من الأمراء الذين بالقلعة فتح باب القلعة لهم في بكرة يوم الثلاثاء فاعتذر الأمراء لهم بأن المفاتيح عند الزمام كافور فاستدعوه فأتاهم وكلمهم من وراء الباب فسلموا عليه من عند الأمير شيخ ومن عند أنفسهم وكان الأمير نوروز من جملة من كان واقفًا على الباب وسألوه الفتح لهم فقال: ما يمكن ذلك فإن حريم السلطان بالقلعة فقالوا: مالنا غرض في النهب وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا - يعنون بابن أستاذنا: الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج وكان هذا الصبي سمي على اسم أبيه وهو أكبر أولاد الملك الناصر - فقال كافور الزمام: وأيش صاب السلطان حتى تأخذوا ولده فقالوا: لو كان السلطان حيًا ما كنا هاهنا - يعنون أنهم قتلوا السلطان وساروا إلى الديار المصرية ليسلطنوا ولده - فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره. وطال الكلام بينهم في ذلك فلم يلتفت كافور إلى كلامهم فهددوه بإحراق الباب فخاف وقال: " إن كنتم ما تريدون إلا ابن أستاذكم فليحضر إلى باب السر اثنان منكم أو ثلاثة وتحضر القضاة ثم احلفوا أنكم لا تغدرون به ولا تمسونه بسوء. وكان كافور يقصد بذلك التطويل فإنه كان بلغه هو والأمراء الذين بالقلعة قرب مجيء العسكر السلطاني إلى القاهرة فبعثوا لهم البطاقة من القلعة باستعجالهم وأنهم في أقوى ما يكون من الحصار ومتى ما لم يدركوا أخذوا. وأخذ كافور في مدافعة الجماعة والتمويه عليهم - قلت: وعلى كل حال فهو أرجل من أرغون الأمير آخور فإن أرغون مع كثرة من كان عنده من المماليك السلطانية ومماليكه لم يقدر على منع باب السلسلة وتركها وفر في أقل من يومين وكان يمكنه. مدافعة القوم أشهرًا - انتهى. وبينما كافور الزمام في مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطاني لمن كان شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل وقد ارتفع العجاج واقبلوا سائقين سوقًا عظيمًا جهدهم. فلما بلغ شيخًا وأصحابه ذلك لم يثبتوا ساعةً واحدةً وركبوا من فورهم ووقفوا قريبًا من باب السلسلة فدهمهم العسكر السلطاني فولوا هاربين نحو باب القرافة والعسكر في أثرهم فكبا بالأمير شيخ فرسه عند سوق الخيم بالقرب من باب القرافة فتقنطر من عليه فلم يستطع النهوض ثانيًا لعظم روعه وسرعة حركته فأركبه بعض أمراء آخوريته - يقال إنه الأمير جلبان الأمير آخور الذي كان ولي نيابة الشام في دولة الملك الظاهر جقمق إلى أن مات في دولة الملك الأشرف إينال في سنة ثمان وخمسين وثمانمائة - وركب شيخ ولحق بأصحابه فمروا على وجوههم على جرائد الخيل وتركوا ما أخذوه من القاهرة وأيضًا ما كان معهم وساروا على أقبح وجه بعد أن قبض عسكر السلطان على جماعة من أصحاب شيخ مثل الأمير قرا يشبك - قرب - نوروز - وبردبك رأس نوبة نوروز - لأن نوروزًا ثبت قليلًا بالرميلة بعد فرار الأمير شيخ - وعلى برسباي الطقطائي أمير جاندار وثمانية وعشرين فارسًا وجرح جماعة كبيرة منهم السيفي يشبك الساقي الظاهر - الذي ولي في الدولة الأشرفية برسباي الأتابكية - ومن هذا الجرح صار أعرج بعد أن أشرف على الموت. ودخل الأمير بكتمر جلق بعساكره وأرسل الأمير سودون الحمصي فأعتقل جميع من أمسك من الشاميين وأخذ يتتبع من بقي من الشامية بالقاهرة. ثم نادى في الوقت بالأمان. ثم أخذت عساكره يقتلون في الشاميين ويأسرون وينهبون إلى طموه وألزم بكتمر جلق والي القاهرة بمسك الزعر الذين قاموا مع الشاميين فأبادهم الوالي وقطع أيدي جماعة كبيرة وحبس جماعة أخر بعد ضربهم بالمقارع. وأخذ الأمير بكتمر جلق في تمهيد أحوال الديار المصرية. وقدم عليه الخبر في ليلة الأربعاء حادي عشر من شهر رمضان المذكور بأن شيخًا نزل إطفيح وأن شعبان بن محمد بن عيسى العائذي توجه بهم إلى نحو الطور فنودي بالقاهرة ومصر بتحصيل من اختفى من الشاميين بها. ثم قدم الخبر بوصولهم إلى السويس وأنهم أخذوا علفًا كان هناك للتجار وزادًا وجمالًا وسار بهم شعبان بن عيسى في درب الحاج إلى نخل فأخذوا عدة جمال للعربان وأن شعبان المذكور أمدهم بالشعير والزاد وأنهم افترقوا فرقتين فرقة رأسها الأمير نوروز الحافظي ويشبك بن أزدمر وسودون بقجة وفرقة رأسها الأمير شيخ المحمودي وسودون تلي المحمدي وسودون قراصقل وكل فرقة منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك وأنهم لما وصلوا إلى الشوبك دفعهم أهلها عنها فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب فتضرعوا له حتى نزل إليهم من قلعة الكرك وتلقاهم وادخلهم مدينة الكرك وأنهم استقروا بالكرك. وأما الأمير بكتمر جلق بمن معه من الأمراء والعساكر السلطانية فإنهم أقاموا! لقاهرة نحو ستة أيام حتى تحققوا توجه القوم إلى جهة البلاد الشامية فخرجوا من القاهرة في يوم سادس عشر من رمضان يريدون البلاد الشامية إلى الملك الناصر وهو بدمشق وتأخر بالقاهرة من الأمراء من أصحاب بكتمر جلق: طوغان الحسني رأس نوبة النوب - وقد استقر قبل تاريخه دوادارًا كبيرًا بعد موت الأمير قراجا بطريق دمشق في ذهاب الملك الناصر إلى الشام - ويشبك الموساوي الأفقم وشاهين الزردكاش وأسنبغا الزردكاش. وسار بكتمر جلق بمن بقي حتى وصل دمشق. وأما السلطان الملك الناصر فإنه كان في هذه الأيام بدمشق وبلغه ما وقع بالديار المصرية مفصلًا لكن نقل إليه أن بكتمر جلق وطوغان الحسني قصرا في أخذ شيخ ونوروز ولو قصدا أخذهما لأمكنهم ذلك فأسرها الملك الناصر في نفسه. قلت: ولا يبعد ذلك لما حكى لي غير واحد - ممن حضر هذه الواقعة - من ضعف شيخ ونوروز وتقاعد الأمراء عن المسير في أثرهم. ولما بلغ الملك الناصر ذلك لم يسعه إلا السكات وعدم معاتبة الأمراء على ذلك. ثم إن السلطان أمسك الأمير جانبك القرمي بدمشق في يوم الاثنين أول شوال وضربه ضربًا مبرحًا وسجنه بقلعة دمشق. ثم أمر السلطان الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش - المعروف بسيدي الكبير - بالمضي إلى محل كفالته بحلب فسار من دمشق عائدًا إلى حلب. واستمر السلطان بدمشق إلى يوم سابع عشر ذي القعدة وخرج منها إلى قبة يلبغا ورحل من الغد بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعد ما تحقق نزول الأمراء بالكرك. وخلع على بكتمر جلق بنيابة الشام على عادته وعاد بكتمر إلى دمشق. وأما شيخ ونوروز وجماعتهما فإنهم أقاموا بالكرك أيامًا واطمأنوا بها ثم أخذوا في تحصينها. فلما كان بعض الأيام نزل الأمير شيخ ومعه الأمير سودون بقجة وقاني باي المحمدي في طائفة يسيرة من قلعة الكرك إلى حمام الكرك فدخل جميع هؤلاء الحمام. وبلغ ذلك الأمير شهاب الدين أحمد حاجب الكرك فبادر بأصحابه ومعه جمع كبير من أهل البلد واقتحموا الحمام المذكور ليقتلوا بها الأمير شيخًا وأصحابه فسبقهم بعض المماليك وأعلم الأمير شيخًا فخرج من وقته من الحمام ولبس ثيابه ووقف في مسلخ الحمام عند الباب ومعه أصحابه الذين كانوا معه في الحمام فطرقهم القوم بالسلاح فدافع كل واحد منهم عن نفسه وقاتلوا قتال الموت حتى أدركهم الأمير نوروز بجماعته فقاتلوهم حتى هزموهم بعد ما قتل الأمير سودون بقجة وأصاب الأمير شيخًا سهم غار في بدنه فنزف منه دم كثير حتى أشرف على الموت وحمل إلى قلعة الكرك فأقام ثلاثة أيام لا يعقل ثم أفاق. ومن هذه الرجفة حصل له مرض المفاصل الذي تكسح منه بعد سلطنته هكذا ذكر المؤيد لبعض أصحابه. وأما الأمير نوروز لما بلغه قتل سودون بقجة وهو يعارك القوم جد في قتالهم حتى كسرهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم عاد إلى الكرك وقد جرح من أصحابه جماعة. وبلغ هذا الخبر السلطان الملك الناصر فسر بقتل سودون بقجة سرورًا عظيمًا لكثرة ما كان أحسن إليه ورقاه حتى ولاة نيابة طرابلس فتركه وتوجه إلى الأمير شيخ ونوروز من غير أمر أوجب تسحبه بل لأجل خاطر أغاته وحميه الأمير تمراز النائب. ثم وقع بين الأمراء وبين سودون الجلب بالكرك فنزل سودون الجلب من الكرك وتركها لهم ومضى حتى عدى الفرات. وأما
فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على مدينة الكرك في يوم الجمعة رابع عشرين ذي القعدة وأحاط بها ونصب عليها الآلات وجد في قتالها وحصرها وبها شيخ ونوروز وأصحابهما واشتد الحصار عليهم بالكرك. وأخذ الملك الناصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على الهلاك والتسليم. ثم أخذ شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون الوالد ويتضرعون إليه وهو يتبرم من أمرهم والكلام في حقهم ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلق بعد حلفه في واقعة صرخد فأخذ شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر جلق كان الباغي عليه والبادئ بالشر وأنه هو دفع عن نفسه لا غير وأنه ما قصده في الدنيا سوى طاعة السلطان وأنت الأمير الكبير وأكبر خشداشيتنا إن لم تتكلم بيننا في الصلح وإلا فمن يتكلم ثم كاتبوا أيضًا جماعة من الأمراء في طلب العفو والصلح. ولازالوا حتى تكلم الوالد مع السلطان في أمرهم فأبى السلطان إلا قتالهم وأخذهم والوالد يمعن في ذلك حتى ابترم الصلح غير مرة والسلطان يرجع عن ذلك. ثم ترددت الرسل بينهم وبين السلطان أيامًا حتى انعقد الصلح على أن يكون الوالد نائب الشام وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب وأن يكون الأمير نوزوز نائب طرابلس وكان ذلك بإرادة شيخ ونوروز فإنهما قالا: لا نرضى أن يكون بكتمر جلق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشام ونحن أقدم منه عند السلطان فإن كان ولا بد فيكون الأمير الكبير تغري بردي في نيابة الشام ونكون نحن تحت أوامره ونسير في المهمات السلطانية تحت سنجقه وأما بكتمر ودمرداش فلا. وإن فعل السلطان ذلك لا يقع منا بعدها مخالفة أبدًا ولما بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الاعجاب وقد ضجر القوم من الحصار وملوا من القتال فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال إلى تولية الوالد نيابة الشام وكلم الوالد في ذلك فأبى وامتنع غاية الامتناع. وكان السلطان قد شرط على الأمراء شروطًا كثيرة فقبلوها على أن يكون الوالد نائب دمشق. وأخذ الملك الناصر يكلم الوالد في ذلك والوالد مصمم على عدم القبول وأرمى سيفه غير مرة بحصرة السلطان وأراد التوجه إلى القدس بطالًا. وصار الوالد كلما امتنع من الاستقرار وحنق يكف عنه السلطان فإذا رضي كلمه. ثم سلط عليه الأمراء فكلموه من كل جهةً حتى قبل. ثم قام إليه السلطان واعتنقه وطلب الخلعة فجيء بها في الحال وألبسها للوالد باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن بكتمر جلق. واستقر الأمير شيخ في نيابة حلب عوضًا عن قرقماس سيدي الكبير والأمير نوروز في نيابة طرابلس عوضًا عن جانم من حسن شاه. واستقر جانم المذكور أمير مجلس بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية. واستقر تغري بردي سيدي الصغير في نيابة حماة على عادته. ورسم للأمير سودون من عبد الرحمن نائب صفد أن ينتقل من نيابة صفد إلى تقدمة ألف بالديار المصرية وأن يكون الأمير يشبك بن أزدمر أتابك دمشق عند الوالد فإنه كان من ألزامه وعقد عقده بعد ذلك على إحدى بناته - ولها من العمر نحو ثلاث سنين - ويكون قاني باي المحمدي أميرًا بحلب عند الأمير شيخ. ثم شرط السلطان على شيخ ونوروز ألا يخرجا إقطاعًا ولا إمرةً ولا وظيفة لأحد في الناس إلا بمرسوم السلطان وأن يسلما قلعة الكرك إلى السلطان ويسلم شيخ قلعة صهيون وصرخد أيضًا فرضوا بذلك جميعه وحلفوا على طاعة السلطان. وخلع السلطان عليهم خلعًا جليلةً ومد لهم سماطًا أكلوا منه. ثم رحل السلطان من الكرك بعساكره يريد القدس فوصله وأقام به خمسة أيام ثم خرج منه وسار يريد القاهرة. وأما الوالد فإنه سار من الكرك إلى نحو دمشق حتى دخلها في يوم سادس المحرم من سنة أربع عشرة وثمانماثة ونزل بدار السعادة وقد خمدت الفتنة وسكن هرج الناس. ثم خرج الأمير شيخ والأمير نوروز من الكرك إلى محل كفالتهما وقدما إلى دمشق بمن معهما من الأمراء والمماليك لعمل مصالحهما بدمشق فلما بلغ الوالد قدومهما خرج لتلقيهما بقماش جلوسه في خواصه لا غير فلما وقع بصرهما على الوالد نزلا عن خيولهما فأقسم عليهما الوالد في عدم النزول فنزلوا قبل أن يسمعوا القسم فعند ذلك نزل لهم الوالد أيضًا عن فرسه وسلموا عليه فحلف عليهم الوالد بالنزول في دار السعادة فامتنعوا من ذلك فأنزلهم بالمزة ثم ركب إليهم الوالد وأخذهم. من. وطاقهم غصبًا وأنزل الأمير شيخًا بالقرمانية ونوروزًا بدار الأمير فرج بن منجك ونزل كل واحد من أصحابهما بمكان حتى عملت مصالحهم. وكثر تردادهم إلى الوالد بدار السعادة في تلك الأيام فسر أهل الشام بذلك غاية السرور وصار الأمير شيخ يتنزه بدمشق ويتوجه إلى الأماكن ومعه قليل من مماليكه. حدثني بعض مماليك الوالد أن الأمير شيخًا كان يجيء في تلك المدة إلى الوالد في دار السعادة ومعه شخص واحد من مماليكه وينزل ويقيل بالبحرة وينام بها نومةً كبيرةً إلى أن يطبخ له ما اقترحه من المآكل. ثم خرج الأمير شيخ والأمير نوروز كل منهما إلى محل كفالته بعد أن أنعم الوالد في يوم سفرهما على كل واحد بألف دينار وقيد له فرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش وأشياء غير ذلك كثيرة. وأما أمر السلطان الملك الناصر فإنه سار من القدس حتى نزل بتربة والده بالصحراء خارج القاهرة في يوم الأربعاء ثاني عشر المحرم من سنة أربع عشرة وثمانمائة وخلع على الخليفة المستعين بالله العباس وعلى القضاة والأمراء وسائر أرباب الدولة وخلع على الأمير دمرداش المحمدي باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الوالد بحكم انتقاله إلى نيابة دمشق حسبما تقدم ذكره. ثم ركب السلطان من التربة المذكورة وطلع إلى القلعة بعد ما خرج الناس للفرجة عليه فكان لطلوعه يوم مشهود. وزينت القاهرة أيامًا لقدومه. ثم بعد قدوم السلطان باثني عشر يومًا قدم الأمير بكتمر جلق المعزول عن نيابة دمشق فركب السلطان وتلقاه وألبسه تشريفًا وخلع على الأمير الكبير بنظر البيمارستان المنصوري ودخل السلطان من باب النصر وشق القاهرة ونزل بمدرسته التي أنشأها جمال الدين الأستادار له برحبة باب العيد المعروفة بالجمالية وقد أثبت القضاة أنها له وسميت بالناصرية. ثم ركب السلطان من المدرسة المذكورة ونزل بمدرسة والده المعروفة بالبرقوقية ببين القصرين ثم ركب منها وأمر الأتابك دمرداش بعبور البيمارستان المنصوري وتوجه السلطان إلى جهة القلعة. ثم في ثاني عشر صفر من سنة أربع عشرة وثمانمائة عين السلطان اثنين وعشرين أميرًا من الأمراء البطالين ليتوجهوا إلى الشام على إقطاعات عينها السلطان لهم منهم: الأمير حرمان الحسني وتمان تمر الناصري وسونجبغا وشادي خجا وألطنبغا وقاني باي الأشقر ومعهم مائتا مملوك ليكونوا أعوانًا للوالد بدمشق وفي خدمته. وكان الوالد شفع في هؤلاء المذكورين حتى أطلقهم السلطان - على عادتهم - من السجن ثم أمر السلطان بقتل جانبك القرمي وأسندمر الحاجب وسودون البجاسي وقاني باي أخي بلاط والجميع كانوا بسجن الإسكندرية. ثم في حادي عشرين صفر خلع السلطان على تقي الدين عبد الوهاب ابن الوزير فخر الدين ماجد بن أبي شاكر باستقراره في وظيفة نظر الخاص وكانت شاغرةً منذ توفي مجد الدين عبد الغني بن الهيصم في ليلة الأربعاء العشرين من شعبان من سنه ثلاث عشرة وثمانمائة. ثم أمسك السلطان بثلاثة أمراء من أمراء الألوف وهم: قاني باي المحمدي ويشبك الموساوي الأفقم وكمشبغا الفيسي وقبض على جماعة أخر من الطبلخانات والعشرات وهم: الأمير منجك والأمير قاني باي الصغير العمري ابن بنت أخت الملك الظاهر برقوق - وقاني باي هذا جد خوند بنت جرباش الكريمي وزوجة السلطان الملك الظاهر جقمق لأمها - وكان أمير عشرة وعلى الأمير شاهين وخير بك ومأمور وخشكلدي وحملوا الجميع إلى سجن الإسكندرية فسجنوا بها. ثم رسم السلطان للأمير تمراز الناصري أن يكون طرخانًا لا يمشي في الخدمة ويقيم بداره أو يتوجه إلى دمياط ة وتمراز هذا هو الذي كان فر من السلطان وصحبته الأمراء من بيسان إلى الأمير شيخ. ثم خلع السلطان على الأمير سنقر الرومي باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن قاني باي المحمدي المقبوض عليه قبل تاريخه. ثم أرسل الوالد إلى السلطان يعلمه برفع الطاعون من دمشق وغيرها وأنه أحصي من مات من أهل دمشق فقط فكانوا خمسين ألفًا سوى من لم يعرف. وفي أول شهر ربيع الأول قدم الأمير إينال المحمدي الساقي المعروف بضضع من سجن ثم أخرج السلطان إقطاع الأمير جرباش كباشة ورسم له بأن يتوجه إلى دمياط بطالًا. ثم بعده توجه تمراز الناصري المقدم ذكره إلى دمياط أيضًا بطالًا. ثم قبض السلطان على جماعة من كبار المماليك الظاهرية - برقوق - وحبسهم بالبرج من القلعة. ثم قدم الخبر على السلطان بأن شيخًا ونوروزًا لم يمضيا حكم المناشير السلطانية وأنهما أخرجا إقطاعات حلب وطرابلس لجماعتهما وأن الأمير شيخًا سير يشبك العثماني لمحاصرة قلعة البيرة وقلعة الروم وأن عزمهما العود لما كانا عليه من الخروج عن الطاعة. فعلم السلطان عند ذلك أن الذي يحرك هؤلاء على الخروج عن الطاعة والعصيان إنما هم المماليك الظاهرية برقوق الذين هم في خدمة السلطان ووافقه على ذلك أكابر أمرائه وحسنوا له القبض عليهم وكان الوالد ينهاه عن مسكهم ويحذره من الوقوع في ذلك. فلما استقر الوالد في نيابة دمشق خلا له الجو وفعل ما حدثته نفسه مما كان فيه ذهاب روحه فقبض الملك الناصر على جماعة كبيرة منهم وحبسهم بالبرج من القلعة ثم قتلهم بعد شهر وكانوا جمعًا كبيرًا. ثم أمسك السلطان الأمير خير بك نائب غزة وهو يومئذ من أمراء الألوف بالديار المصرية. ثم ورد الخبر على السلطان بحصار عسكر نوروز لحصن الأكراد فاختبط السلطان وكتب إلى ثم في أول شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير أسنبغا الزردكاش - أحد أمراء الألوف وزوج أخته خوند بيرم بنت الملك الظاهر برقوق - باستقراره شاد الشراب خاناه عوضًا عن الأمير سودون الأشقر. ثم في ثالث عشره خلع السلطان على فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الوجه البحري باستقراره أستادارًا عوضًا عن تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم بحكم القبض عليه وتسليمه وحواشيه إلى فخر الدين المذكور. ثم في أول جمادى الأولى رسم السلطان بهدم مدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناه السلطانية ومكانها اليوم بيمارستان الملك المؤيد شيخ فوقع الهدم فيها وكانت من محاسن الدنيا ضاهى بها الملك الأشرف مدرسة عمه السلطان الملك الناصر حسن التي بالرميلة تجاه قلعة الجبل.
|